البصمة الوراثية واستخداماتها

البصمة الوراثية واستخداماتها



نحاول هنا استعراض بعض التطبيقات الواقعية لما أفرزته التجارِب في مجال الهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني، مع بيان الحكم الشرعي لكل منها، على أن نلتزم بعدم إيراد التطبيقات التي تعرَّض المجمع لبيان حكمها في قرارات سابقة، مثل: استخدام الأجنة مصدرًا لزراعة الأعضاء[1]، وزراعة الأعضاء التناسلية[2]، وزراعة خلايا المخ والجهاز العصبي[3]، والاستنساخ البشري[4].

ولهذا يقتصر الحديث في هذا المجال - عبر المقالات القادمة - على التطبيقات الآتية:
1- استخدامات البصمة الوراثية.
2- التحكم في جنس الجنين البشري.
3- العلاج الجيني.

البصمة الوراثية واستخداماتها[5]:
1- البصمة الوراثية، أو بصمة الحمض النووي، أو بصمة[6] D.N.A = الحمض النووي الريبوزي المختزل، كما جاء في ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري رؤية إسلامية: الكويت 1419، وأقره المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي: دورة 16 لسنة 1422هـ - هي: "البنية الجينية (نسبة إلى الجينات أو المورثات) التي تدل على هوية كل إنسان بعينه".

وبعبارة أوضح: "هي المادة المورثة الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية، وهي مثل تحليل الدم أو بصمات الأصابع، أو المادة المنوية، أو الشعر، أو الأنسجة، تبين مدى التشابه والتماثل بين الشيئين أو الاختلاف بينهما، فهي - بالاعتماد على مكونات الجينوم البشري - الشفرة التي تحدد مدى الصلة بين المتماثلات، وتجزم بوجود الفرق أو التغاير بين المختلفات، عن طريق معرفة التركيب الوراثي للإنسان في ظل علم الوراثة أحد علوم الحياة"[7].

فهي - إذًا - اختلافات في التركيب الوراثي لمنطقة الإنترون، ينفرد بها كل شخص، وتنتقل بالوراثة، بحيث يحصل كل إنسان على نصف هذه الاختلافات من الأب، والنصف الآخر من الأم، فيتكون لديه مزيج وراثي يجمع بين خصائص الوالدين وبين الخصائص الوراثية لأسلافه، ويكتسب بهذا المزيج الوراثي صفة الاستقلال عن كروموسومات أيٍّ من والديه - مع بقاء التشابه معهما في بعض الصفات - وبالتالي: لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر، حتى وإن كانا تَوْءَمين.

وهذه البصمة تحمل كل الصفات والخصائص والأمراض والتغيرات التي سوف تطرأ على الشخص منذ التقاء الحيوان المنوي بالبويضة حتى نهاية عمره، وقد روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:((إن خلقَ أحدكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيُؤمَر بأربع كلمات، فيُقال: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقيٌّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، قال: فوالذي نفسي بيده - أو قال: فوالذي لا إله غيره - إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار))؛ متفق عليه[8].

2- الكشف عن بصمة الجينات الوراثية:
أول من توصَّل إلى الكشف عن خاصية الثبات في توارث الصفات والخصائص عند الكائنات الحية هو العالم النمساوي (جريجور ماندل) في سنة 1865، ثم جاء (جوهانسن) عام 1909 وأطلق على العامل الوراثي المسؤول عن نقل الصفات الوراثية اسم (الجين)، واستطاع العالمان (جيمس واطسن) الأمريكي (وفرانسيس كريك) الإنجليزي في سنة 1953 وضع نموذج يوضح تركيب شريط الـ (D.N.A) الوراثي، وفي عام 1984 اكتشف العالم البريطاني (إليك جيفريز) خاصية الجزء المميز في تركيب بصمة الجينات الوراثية، وتمكن هو وفريقه من ترسيب الحمض النووي على أشرطة جهاز ترسيب، ولاحظ التغاير الموجود بين الجينات، وعدم وجود تشابه بين اثنين إلا في حالة التوائم من بويضة واحدة، فأطلق عليها تسمية (بصمة الجينات الوراثية)؛ لأنها تشبه بصمة الأصابع التي ينفرد بها كل شخص.

3- مزايا البصمة الوراثية ومثالبها:
أ- تظهر بصمة الجينات الوراثية على هيئة خطوط عريضة يسهل قراءتها وتخزينها لمدة طويلة؛ لأن الحمض النووي يقاوم عوامل التحلل والتعفن، ويسهل الحصول عليها من أي مخلفات بشرية جافة أو سائلة؛ كاللعاب، والشعر، والدم، والمني، والعظم.

ولهذا، فإن استخدامها يتيح اكتشاف الجناة والضحايا، وتحديد هوية الحرقى والغرقى والمفقودين، والتمييز بين الذكر والأنثى، ولو طالت المدة.

ب- تكشف البصمة الوراثية عن الأمراض الوراثية التي تنتقل من السلف إلى الخلف، ويمكن - عن طريق الدمج أو التعديل - علاج هذه الأمراض في فترة مبكرة من عمر الإنسان.

جـ- نسبة النجاح في نتائج بصمة الجينات الوراثية عالية جدًّا، حدَّدها بعض الخبراء بنسبة: 99.9999% نظرًا لعدم تطابق اثنين من البشر في جميع الصفات الوراثية.

د- لضمان صحة نتائج البصمة الوراثية، وبالتالي الاعتماد عليها، يجب تشديد إجراءات الرقابة على الخبراء والمعامل، وتعدد أخذ العينات، مع تحليلها في مواقع مختلفة، وتوثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية، بدءًا من نقل العينات، وانتهاءً بظهور النتائج، والتأكد من أن هذه العينة ليست لتوائم متطابقة.

4 - الحكم الشرعي للأخذ ببصمة الجينات الوراثية:
أ- في مجال النسب: في هذا المجال ثوابت شرعية لا يجوز التعدي عليها؛ فإثبات النسب - في حالة التنازع، كما يحدث في المستشفيات حاليًّا - يمكن التعرف عليه عن طريق البصمة الوراثية، قياسًا على إثبات النسب بالقيافة[9]، بل أولى.

أما عند عدم وجود التنازع، فالولد للفراش[10]، ولا يجوز استخدام البصمة الوراثية للتأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، أو إلحاق ولد الزنا بصاحب الماء.

أما نفي النسب، فطريقه الشرعي اللعان، وهذا محل اتفاق بين جمهور الفقهاء[11]، وعلى ذلك: فنحن لا نتفق مع من يرون أن البصمة الوراثية يمكن أن تحلَّ محلَّ اللعان، ونتمسك بما جاء في قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (الدورة 16 لسنة 1422هـ) من أنه: "لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان"؛ فقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم الشبَهَ مقابل اللعان[12].

ب - الإثبات الجنائي: تعتبر بصمة الجينات الوراثية من أقوى القرائن في مجال الإثبات الجنائي؛ فهي تساعد المحقق في الكشف عن مرتكبي الجرائم وشخصية الضحية، وهي من أقوى الوسائل لحمل المتهم على الإقرار بجريمته[13].

أما إذا أنكر المتهم ما نسب إليه - رغم إثبات أن العينات التي جرى تحليلها تعود إليه بنسبة 99،9999% - فلا مانع من الأخذ بهذه القرينة القاطعة في إثبات الجرائم التعزيرية، ومعاقبة مرتكبيها بما يردعهم عن المعاودة، ولكن لا يؤخذ بها في إثبات جرائم الحدود - كالزنا والسرقة - ولا في إثبات جرائم القتل؛ لِما تقرر شرعًا من أن الحدَّ لا يجب إلا بالإقرار أو البينة[14]؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة))[15].


[1] القرار رقم: 56 (7/ 6) لسنة 1410.
[2] القرار رقم: 57 (7/ 6) لسنة 1410هـ.
[3] القرار رقم: 54 (5/ 6) لسنة 1410هـ.
[4] القرار رقم: 94 (2/ 10) لسنة 1418هـ.
[5] البصمة الوراثية، عمر السبيل، خريطة الجينوم البشري، مريع آل جار الله، البصمة الوراثية، سعد الدين مسعد، البصمة الوراثية، مصلح النجار، أثر البصمة الوراثية في إثبات الجرائم ونفيها، عبدالله الأحمري، الثورة البيولوجية ودورها في الكشف عن الجريمة، خالد الحمادي.
[6] اختصار لمصطلح: (DEOXY RIBO NUCLEC ACID).
[7] وهبة الزحيلي، في مؤتمر الهندسة الوراثية بجامعة الإمارات: 1423هـ.
[8] البخاري (3332) مع فتح الباري: 6/ 363، مسلم (كتاب القدر) مع شرح النووي: 16/ 190.
[9] نهاية المحتاج للرملي: 8/ 375، كشاف القناع للبهوتي: 4/ 236، المحلى لابن حزم: 9/ 339، والحنفية لا يثبتون النسب بالقيافة (المبسوط للسرخسي: 17/ 70)، والمشهور عند المالكية إثبات النسب بالقيافة في أولاد الإماء، دون أولاد الحرائر (تبصرة الحكام لابن فرحون: 2/ 115).
[10] حديث متفق عليه، البخاري (2218)، ومسلم (1457).
[11] بدائع الصنائع للكاساني: 3/ 246، بداية المجتهد لابن رشد: 3/ 163، تحفة المحتاج لابن حجر: 8/ 216، الإنصاف للمرداوي: 9/ 254.
[12] ينظر الحديث الذي أخرجه البخاري، رقم 4747.
[13] تم ملاحظة ذلك عند دراسة عدد كبير من القضايا في المملكة، كان محلها: ترويج عملة مزيفة، وحوادث دهس مروري، وسرقة محلات ومنازل، واعتداءات جنسية على أطفال وبالغين، وجرائم قتل .. وغيرها.
[14] المغني لابن قدامة: 12/ 501.
[15] أخرجه الترمذي في الحدود (1424)، والدارقطني في السنن: 3/ 84، والحاكم في المستدرك: 4/ 384 وصححه، والبيهقي في سننه: 8/ 238، وضعفه الألباني في الإرواء: 8/ 25.

منقول من موقع الألوكة: رابط الموضوع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتاب : مقدمة في التقنية الحيوية د.سعد العتيبي و د.محمود رفعت

علم زراعة الأنسجة

للتحميــــــــــل كتــــــــاب : التقنية الحيوية الميكروبية